هي مقامة عجيبة للمرحوم محمود بيرم التونسي ١٨٩٣-١٩٦١ رواها عنه مصطفى حمام و قد نقلتها لكم هنا من مقال د.يعقوب يوسف الغنيم في جريدة الوطن
و جدير بالذكر أن السندويش كان من جديد الأطعمة في الحين الذي قيلت فيه هذه المقامة
حدثنا حزنبل ابن حَبَشْتَقَان، قال: بؤساً للشيخ الذي لا يعرف من العلم إلا المنطق وفضوله، والفقه وأصوله، والنحو وفصوله، ولا يعرف من الدين إلا يوم القيامة، ولا من الدنيا إلا كوم الشيخ سلامة، ووالله ما رأى حسناً أحسن من الطبيخ، ولا لذيذاً ألذ من الفسيخ، ولا حلواً أحلى من البطيخ، ولا عجيبا أعجب من الصواريخ.
وإذا كنتُ بين داري ودرسي
ساعياً كل ليلة ونهارِ
والذي كنت فيه أرجع فيه
أي فرقٍ بيني وبين الحمارِ
قال صاحبي أمين أفندي، وجعل يسهر كل ليلة عندي، وشفيق هذا لا يصاحب الشيوخ، إلا إنه يحترمني ويمسح لي جوخ، لأني أشرح له معنى الكلام ولُبابه، وأكشف بالنحو خطأه وصوابه.
جاءني شفيق ذات يوم يقول: قم فاستنشط، وذقنك فمشط، وجبتك فالبس، وعمتلك فاكبس، فسآخذك إلى حفلة راقصة، وليلة أنس هائصة، لتعرف مجاري المياه، وترى كيف تكون الحياة، قلت ما كنا من أهل النقص، حتى نذهب إلى حفلة رقص، أو ترقص أنت أيضاً؟ قال: وأفيض في الرقص فيضا، فقمت فلبست جبّتي التي لونها «كموني، وقفطاني الذي أرضيته خضراء وخطوطه زيتوني، وتعطرت من القدم إلى الدُّماغ، وركبنا عربة بخمس عشر قرش صاغ، فلما وصلنا إلى الحارة، لم نجد على المنزل دليلاً ولا إشارة، قلت لقد خدعني المنافق، ولا غرو فهو خليع فاسق، ثم قال ادخل، فرأيت الأنوار والعه، والنساء قالعه، ورجالاً عراة الرؤوس، وسجاجيد عليها ندوس، وماهي للجلوس، وبساطاً تغوص فيه الأقدام، ووسائد حَشْوُها من ريش النعام، وأطباقا فيها فطير، وأخرى فيها جرجير، ما هي إلا رجعة النظر، حتى انتظم من العقد ما انتثر، وتأبط كلَّ أنثى ذكر، واصطحبتْ كلُّ شمس بقمر، وبين الآهات والأنات، قل معي على هذه النغمات
يا صاح وحقّك ليس على من رام المرقص من حرج
الرقص نعيم العُمْر فَقُمْ وادخل للمرقص واندمج
جمعوا الفتياتِ مع الفتيان فيا للأمر المُنْبَهج
ما كاد مغنّي القوم يدق الدُّف بلحن منه شَج
حتى انخرطت وَحَداتهو ثم ازدوجت بالمزدَوجِ
رجل وخليلُته التصًقا بصدور العز وبالمهج
فعلى كتفيه معاصمها ويداه بخصر ذي عوج
وخُطى الأقدام موقْعة بالرقص على نظم الهزج
وَرَوَاحُهُما ومجيئهما في النَّهْج على أرقى نهج
طورا كالصاعد في درج أو كالمنحط من الدرج
فإذا انجذبت فلمنجذب وإذا اختلجت فلمختلج
وإذا نقلت قدما رفعت قدماً والرفع بلا عرج
وأساورهم وخواتمهم خطفت عينيّ من الوهج
والقوم تموج الأرض بهم مما هم فيه من الهرج
وفقيه اللّه على حدةٍ ثملٌ بالشوق المعتلج
في الركن يُرَقِّص لحيته وتروح عمامته وتجي
قال: وسكتت الموسيقى على غفلة، وهدأ ضجيج الحفلة، فجاءني صاحبي يقول: «إنْ فاتك الرقص والتحبيش، فلا يفوتنك السندويش، قال هذا وأتاني بطبق، فلا والله ما الكشك بالأرانب، ولا الضأن في كل فخذ وجانب، ولا الملوخية بالفراخ، ولا اللحم في الأسباخ، ببالغةٍ طعمه، ولا تساوي فيه لقمة، ولقد أكلت منه قطعة، ثم أسعفتها بتسعة، وجعل الحفل يسمر ويطرب، وجعلت آكل وأشرب، إلى أن جاء صاحب البيت المسماح، فقال: يا صاح، هل لك أن تصف هذا الحفل بأبيات، أو تنشئ فيه قليلاً من الكلمات، فقلت
إذا كنت معتزمًا أن تعيشا
فجانب رعاع الورى والوحوشا
ولا تأكل الكشك والحندويل
وقاطع بشارتهم والدشيشا
فأم الخلول تُطيش العقول
وما يرتضي عاقل أن يطيشا
ولله دَرُّك من حفلة
وَدَرّ الذي أطعم السندويشا
فإن ترقصوا فابعثوا لي رسولاً
ولو كان هذا الرسول الشاويشا